تيك توك وأخواتها
هل جربت تطبيق تيك توك من قبل؟
هل أنت من مدمنيه أو على الأقل ممكن قام بتثبيت التطبيق على سبيل الفضول؟
لا بد أنك سمعت به على الأقل أو رأيته في هاتف أحد أصدقائك.
عزيزي القارئ دعني بداية أوجه لك دعوة للعدول عن قرار متابعة هذا المقال إن كنت من محبي تيك توك فلا أعتقد أن كلماتي ستروق لك،ولكي يصل إليك ما أرمي إليه دعني أذكر لك قصة -هي أقصر من أن تكون قصة-حدثت معي منذ فترة،حيث كنت أتصفح تطبيق تويتر الشهير وإذ تظهر أمامي صورة للشهيد محمد الدرة ووالده،صورة راسخة في ذاكرة الأمة العربية الخرفة،لكنها لم تكن صورة مجردة،بل كان يتذيلها سطران كتب فيهما ما يلي : "أنا وأخي لما تدخل علينا أمي بعد الغدا".
صورة صنعت بغرض التنكيت وإضحاك الغير من غير تفكير برمزية الصورة ولا حرمة الدم ولا مآسي طفل مات يافعا أو شعب مكلوم منذ ما يقارب القرن.صورة ميديا
لكن ما علاقة تيك توك بالأمر ؟
حسنا لكي نجد إجابة لسؤالي سأضطر للعودة مئة عام إلى الوراء زمنيا،وتحديدا إلى فترة ما بين الحربين العالميتين،فترة كانت تتسابق فيها الدول لتطوير صناعاتها العسكرية والثقافية على حد سواء،فترة شهدت سباقا محموما لاجتذاب العلماء والعباقرة والعمل على الاستفادة منهم بمنحهم امتيازات لم تتسن لأحد في عصرهم،فكان نيلز بور وتوماس أديسون وألبرت آينشتاين هم نجوم وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية.
وبالعودة لزمننا الحاضر أود أن أطرح عليك سؤالا عزيزي القارئ؟
من هو عالم الفيزياء الأبرز في زمننا الحالي؟
هل وجدت جوابا ؟
حسنا سأغير السؤال،من هو لاعب الكرة الأبرز حاليا،أو من هي الفنانة الأشهر عالميا؟
أعتقد أن جواب هذين السؤالين سهل جدا عليك،ليس لأن سؤالي الأخيرين تمحورا حول اهتماماتك،بل لأن هناك من حور اهتماماتك باتجاه مسير قد تظن أنه تلقائي ولكنه ليس كذلك،فلو أحصينا عدد البرامج التعليمية أو التثقيفية في قنواتنا العربية سنجد أنها لن تتجاوز أصابع اليد الواحدة رغما وجود عدد كبير من القنوات العربية يفوق الألف.من جهة أخرى لو أحصينا عدد البرامج الفنية أو برامج المسابقات والألعاب لوجدناها تفوق المئة وربما المائتين فما هو سبب هذا التفاوت الكبير في العدد؟
ربما يكون أول ما يخطر ببالك هو أن تقول السبب هو تطور المرحلة وتطور أسلوب حياة البشر لكنها للأسف إجابة سطحية لتبرير الإنحدار.
إذا ما هو السبب؟
لكي نفهم سبب ذلك ربما نحتاج لساعات طويلة من الشرح،فالموضوع متشعب جدا ،لكني سأحاول إلقاء الضوء على بعض النقاط التي ربما تساعد على إيجاد إجابة لسؤالي.
لابد أنك سمعت بالحرب التجارية الدائرة حاليا بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية،وربما تكون مهتما وتابعت تحليلات يجمع معظمها على أن البعبع القادم هو الصين وأنها ستتزعم العالم قريبا وتصبح القطب الأوحد والأكبر،فمن مرونة عالية في التعامل مع مرض كورونا وتطور كبير في الصناعات التكنولوجية مرورا بحرب اتصالات الجيل الخامس وليس انتهاء بفكرة أن لا يكاد يوجد بيت في العالم تقريبا إلا وفيه شيء واحد على الأقل صنع في الصين،كل هذه الأمور مع أخرى لم اذكرها ستدفعك للاعتقاد بأن الصين ستكون قريبا هي القطب الأكبر في عالمنا.
حسنا، دعني أخالفك -ليس من باب المجادلة- وأخبرك بأن اعتقادك ربما يكون خاطئا،بل في الغالب هو كذلك،وليس رأيي هذا من باب تحقير الإنجازات الصينية أو الإنحياز لفكرة سيادة الغرب،لكن أمورا أخرى تدخل في حرب زعامة العالم لم تعرها الصين اهتماما كافيا رغما أهميتها !!
هل عرفت عما أتحدث؟
أحسنت أنا أتحدث عن الثقافة الأمريكية التي غزت بها الولايات المتحدة العالم قبل أن تغزوه عسكريا،فعالم السينما تسيطر عليه الأفلام الأمريكية بشكل شبه كامل وكذلك عالم المسلسلات التلفزيونية الأجنبية،وتطول القائمة كثيرا لنجد أن أمريكا استطاعت إدخال أكلتها الشعبية ( همبرغر ) إلى أصغر المطاعم في أبعد بقاع الأرض وهو ما عجزت عنه الصين،واستطاعت إدخال مشروبها ( الكوكا كولا والبيبسي ) إلى كل متاجر الأرض بينما عجزت الصين عن ذلك،واستطاعت أن تلبس كل سكان الأرض بنطالا من المجتمع الأمريكي هو ( الجينز ) بينما عجزت الصين عن ذلك،ولعل أكبر ما استطاعت أمريكا القيام به هو السيطرة على عالم الانترنت بكل تفرعاته، فتطبيق فيسبوك أمريكي وتطبيق يوتيوب أمريكي والكثير من أشهر التطبيقات ( تويتر،انستغرام،سناب شات،واتس اب )هي تطبيقات أمريكية،ونظم تشغيل أجهزة الموبايل تسيطر عليها أمريكا بما يفوق 99% وهنا أقصد نظامي ( أندرويد وios )،وحتى في مجال أجهزة الحاسوب ورغم أن معظم الشركات الكبيرة هي شركات من شرق آسيا إلا أن أكثر من 90% من الحواسيب في العالم تعمل بنظام ويندوز المملوك لشركة مايكرو سوفت الامريكية.
وحتى أجعلك تصل بسرعة لما أرمي إليه دعني أسألك سؤالا،كم من الوقت ستحتاج الصين حتى تزيح أندرويد عن صدارة أنظمة تشغيل الهاتف،بل كم من الوقت ستحتاجه لتقنع الشركات المصنعة للهواتف بالاعتماد على نظام آخر من صنعها ؟
بل متى سيكون بمقدرة أي دولة أن تزيح غوغل عن عرش متصفحات الانترنت التقليدية؟
هل وصلك ما أرمي إليه؟
سأقترح عليك أمرا إضافيا،قم بتغيير صيغة السؤال في جميع أسئلتي الماضية فاحذف « كم من الوقت تحتاج» وضع بدلا منها كم من الجهد تحتاج باقي دول العالم بما فيها الصين لتقنع المستهلكين والمصنعين على حد سواء بالمنتج غير الأمريكي ؟
عودة إلى موضوعنا الأصلي الذي أخبرتك حين خرجت منه أن خروجي منه سيقودنا لبحر من المواضيع المتشابكة،عودة إليه سأسألك من جديد ما علاقة تيك توك بالشهيد محمد الدرة؟
على الواقع لا علاقة بينهما لكن سيطرة الانترنت على أدق تفاصيل حياتنا حولت قصة طفل شهيد في الواقع لنكتة في العالم الافتراضي يتناقلها مستخدمو وسائل التواصل دون أي تفكير في قدسية دم الطفل الشهيد،ولعل سبب هذا التدهور الفكري هو سيادة التفاهة في أروقة الإعلام بكل أشكاله فأصبحت تلك الراقصة ضيفة في برنامج السهرة وذلك المطرب قدوة للجيل الصاعد وهذا اللاعب نجما يعرفه كل سكان الأرض رغم أن لمحفارة الكوسا فائدة أكثر منه،وليست المشكلة في سيطرة الفن والمسابقات على إعلامنا بقدر ما أنها في تفاهة ما يقدم في هذه البرامج،فنجد قناة تصنع برنامجا مدته ساعة من الزمن يعرض في وقت الذروة يقدم لنا أخبارا من قبيل ظهرت المطربة الفلانية في الحفل الفلاني بفستان من تصميم المصمم الفلاني،ونشر المطرب الفلاني تغريدة على تويتر أبدى فيها تضامنه من ضحايا الإعصار الفلاني ووافقت ملكة جمال البلد الفلاني على المشاركة في المسلسل الفلاني الذي سيعرض في رمضان القادم،وفي نوع آخر من البرامج يأتون بمقدمة شقراء نصفها من السليكون،لا تفارق الابتسامة وجهها،وتأتي لنا بممثل ليشارك بتحد مخيف حيث عليه أن يقشر 10 حبات من البطاطا في أقل من دقيقة واحدة،هل تتخيلون معي روعة وفائدة هذا التحدي العظيم؟!!
بل أن الأمر وصل بإحدى الفضائيات الإخبارية لاستضافة فنان لتسأله عما يقوم به من إجراءات وقائية لتجنب الإصابة بفيروس كورونا وفي سؤال آخر يقول له المذيع ما النصائح التي توجهها للناس؟!!
وكأن الأرض خلت من الأطباء والمختصين لنسألهم،أو أن مجتمعاتنا نضبت أن تتضح إلا بأمثال هؤلاء.
وحتى لا يفهم كلامي بأنه مهاجمة لهذا الطرف أو دفاع عن ذاك الطرف سأطلب منك عزيزي القارئ أن تقارن بين آه أم كلثوم وآه مطربة في زمننا هذا لترك كم التحول الثقافي الذي طرأ على مجتمعنا،خمسين سنة كانت كافية لتحول آه كانت تقال لتعبر عن ألم فراق المحب لأخرى أصبحت تقال لتعبر عن شبق جنسي.
لعلك تجد كلماتي جريئة حتى التطرف لكن ما المانع من ذلك،ألم تتطرف قنواتنا الفضائية في سباقها لنشر التفاهة على جمهور المتابعين،حتى صرنا نرى البرامج الرياضية تستضيف فنانا وبرامج الطبخ تستضيف ممثلة يتمحور جل حديثها عن أمنيتها بأن يعم السلام عالمنا ويعيش الأطفال طفولة يستحقونها،وكل هذا في إطار من التلميع لشخصيات كرتونية المظهر والمضمون.
وأنا هنا أكرر للمرة الثانية بأني لا أهاجم أحدا بقدر ما أهاجم أفكارا وطروحا،فليست بيوتنا فاخرة كما يظهر في الإعلانات التلفزيونية،وليس أسرنا كلها مثالية ولا يمكن لذلك الممثل أن يقنعني بأنه ذو موهبة لأنه وسيم فقط وما أكثرهم في زمننا هذا.
حسنا بالعودة لموضوع التيك توك،لابد أنك لاحظت أن بعض الطفرات تحدث في حياتنا تغييرات كبيرة،فدخول عالم القنوات الفضائية أحدث طفرة كبيرة في حياتنا في تسعينات القرن الماضي حتى باتت جملة "العالم قرية صغيرة" إحدى أكثر الجمل استخداما وقتها دلالة على ما أحدثته القنوات الفضائية من تغيير في طريقة إدراكنا للواقع،وجاءت النقلة الثانية بظهور الهواتف الذكية في بداية العشرية الثانية من هذا القرن،حيث أدى تطور هذه التكنولوجية بشكل غير مباشر دورا رئيسا في تطور عالم الانترنت من خلال جعله في متناول أي أحد في أي مكان وهو ما ساهم بدوره في ظهور ما يسمى وسائل التواصل الاجتماعي،والتي جعلت لكل منا هوية إلكترونية وفضاء يسبح فيه كل على ليلاه.
وكانت النقلة الثالثة برأيي الشخصي هي ظهور تطبيق تيك توك لا لعظيم فائدته أو تأثيره الكبير على المجتمع بل بسبب منشأه،حيث أنه أول تطبيق غير أمريكي ينتشر بهذه السرعة ويجد كل هذا الصدى،وإن كان لهذا الأمر دلالة فهي أن الصين بدأت تمسك بخيوط اللعبة وأدركت أن الغزو العسكري يجب أن يسبقه غزو ثقافي وفكري فكان هذا التطبيق خطوة أولى ذكية تمكنت من الاستيلاء على عقول الجيل بأهم أدوات الإعلام الرقمي،وهي أداة التفاهة،من خلال جعل التفاهة أسلوب حياة يمارس.
خطوة صينية ربما تكون تأخرت لكنها كانت ضرورية لمجاراة الهيمنة الأمريكية فكريا بسلاح جمهوره هو الهدف،وهو ما تحاربه الولايات المتحدة بشدة حتى وصلت لمنع التطبيق فوق أراضيها تحت ذريعة الخوف من استخدام الحكومة الصينية لمعلومات المستخدمين.
عمار الياسين
تعليقات
إرسال تعليق